.
الاثنين، 30 سبتمبر 2013

مفهـــوم الشخــص


مفهـــوم الشخــص


حول المفهوم:

1 - يرتد لفظ الشخص في اللغة العربية إلى فعل "شخص" الذي يحيل على معاني الظهور والبروز والعظمة كما يشير إلى ذلك معجم "لسان العرب" : " الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد..والشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد إثبات الذات "...والملاحظ هو أن هذا التحديد لا يقيم تمييزا دقيقا بين الإنسان وباقي الكائنات ما دام يجعل من الشخص كل ما أمكن رؤيته من بعيد أو كل جسم له ارتفاع يسمح له بالبروز.

في الفرنسية ترجع كلمةPersonne إلى اللفظة اللاتينية Persona التي تعني القناع الذي يضعه الممثل على وجهه لكي يتقمص الدور المسند إليه في المسرحية..ومن ثم يغلب على الشخص معنى الظاهري والرمزي والمتخيل، ويتقابل بذلك مع الباطني والحقيقي والواقعي.

2 - في المجال الفلسفي يتحدد مفهوم الشخص كذات عاقلة أو واعية وحرة ومسؤولة، أي يرتبط معناه بشكل أساسي بالإنسان بوصفه متميزا عن باقي الموجودات بما يختص به من وعي وإرادة ومسؤولية. وقد توجه الإهتمام منذ بدايات التفلسف عند اليونانيين إلى التفكير في ماهية الإنسان من خلال تحديد الخصائص التي أصبح الإنسان بفضلها متميزا عن باقي الكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي سيجعل مفهوم الشخص يحمل طابعا ميتافيزيقيا لكونه يشير إلى المحددات الفوق طبيعية التي تميز الإنسان مستبعدا في نفس الوقت العناصر الطبيعية التي تخص الكائنات الأخرى....

وفي هذا السياق يبرز التصور الأفلاطوني القائم على ثنائية الجسد والنفس، حيث تمثل النفس بسبب طبيعتها اللامادية الثابتة والخالدة جوهرا للذات مقابل الجسد المادي الذي يعتريه التغير والزوال..كما أن "أرسطو" قد قدم تصورا لحقيقة الإنسان معتمدا معيار التمييز بين ما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان (تغذية – تنفس – تناسل...)، وبين ما يختص به الإنسان ويصلح بالنتيجة أساسا لتعريفه (العقل أو النطق) منتهيا إلى صيغته المشهورة بأن الإنسان "حيوان ناطق".

غير أن التصور اليوناني حول الإنسان لم يبلغ مستوى التفكير في كرامة و قيمة الإنسان في ذاته و بغض النظر عن مكانته الاجتماعية و السياسية. ومرد ذلك إلى الموقف الإقصائي للثقافة اليونانية تجاه الأجانب و العبيد كفئة لا تتمتع بحقوق مدنية، مقارنة مع المواطن اليوناني. ومن ثم لم يكن غريبا أن نصادف عند فلاسفة اليونان مواقف لا تخلو من نزعة النبذ والإحتقار تجاه الأجنبي والعبد والمرأة.

أما في العصور الحديثة ،والتي تميزت بصحوة فلسفية مثلتها فلسفة الأنوار، فسنجد أن مفهوم الإنسان باعتباره شخصا يتوفر على وعي و إرادة و حرية و مسؤولية في ذاته قد بدأ في التبلور بداية مع الفلسفة الديكارتية قبل أن تكتمل هذه النظرة مع فلسفة "كانط" في القرن الثامن عشر.... ففي سياق التصور الديكارتي القائم على الشك المنهجي و معيار البداهة و الوضوح العقليين، ستظهر فكرة الإنسان العاقل الذي يستطيع بلوغ معرفة يقينية استنادا إلى عقله فقط ودون الخضوع لوصاية خارجية. ففكرة "الكوجيطو" تنطوي على اعتبار الإنسان كائنا جوهره التفكير و الوعي، الشيء الذي يضفي عليه مكانة تتمثل في حريته أو استقلاله بذاته و تشكيله لماهية متميزة عن الكائنات الأخرى...و مع "كانط" ستكتمل النظرة الحديثة إلى الإنسان من خلال إضفاء طابع أخلاقي على طبيعة الشخص و تصرفاته. فالإنسان في التصور الكانطي يتحدد، ليس فقط بالعقل النظري الذي يجعل منه كائنا واعيا يستطيع إنتاج معارف يقينية كما رأى "ديكارت"، بل يتحدد أساسا بالعقل العملي الأخلاقي الذي يملي عليه المبادئ الأخلاقية التي يجب عليه أن يلتزم بها، وأهم هذه المبادئ القاعدة الأخلاقية التي تدفع الإنسان إلى السعي وراء الخير المطلق عندما يعتبر نفسه و الآخرين غايات لا مجرد وسائل، وهذا ما تعبر عنه قولة "كانط": " تصرف دائما بشكل تعامل بمقتضاه الإنسانية، في شخص غيرك مثلما في شخصك، باعتبارها غاية لا وسيلة ".

قضايا و أطروحات:

المحور الأول: الشخص و الهوية

الإشكالية:

في الحياة اليومية العادية، يشعر الإنسان - بشكل حدسي مباشر- بأن له هوية واحدة تظل ثابتة و مطابقة لذاتها رغم التحولات التي تطرأ على الفرد من الناحية الجسمية أو النفسية، و عادة ما يعبر كل منا عن هذه الهوية بضمير " أنا".. و من ثم فإن التساؤل عن" الهوية الشخصية" يبدو غير ذي فائدة بالنسبة للإنسان العادي الذي تمثل لديه هذه الهوية حقيقة بديهية لا تحتاج إلى التأمل و التفكير. غير أن هذه الوحدة المزعومة تطرح أسئلة متعددة شكلت موضوع اهتمام الخطاب الفلسفي بوصفه تفكيرا قائما على وضع "البداهات" موضعا للفحص ،و مجالا فكريا تميز بجعل ماهية الإنسان موضوعا للبحث و التأمل... فما هو الأساس الذي تنبني عليه " الهوية الشخصية"؟ هل تتمثل هذه الهوية في وعي مجرد عن الإحساس / الجسد(ديكارت)؟ أم هي عبارة عن سيرورة أو عملية مرتبطة بالشعور و الذاكرة (لوك)؟ و ما طبيعة العلاقة بين الهوية و الإرادة (شوبنهاور)؟

التصورات:

تشكل الفلسفة الحديثة محطة أساسية في تاريخ الفكر البشري نظرا لما تميزت به من إعلاء لمكانة الإنسان الفرد من خلال تأكيدها على مركزية الأنا أو الذات وفعاليتها المتمثلة في القدرة على التفكير والممارسة الأخلاقية بشكل حر وفي استقلال مطلق عن كل وصاية..ومن أبرز هذه التصورات :

روني ديكارت:(1596/1650)

تعد فلسفة "ديكارت " من أهم الفلسفات التي أسست حقيقة الإنسان على "الوعي" أو العقل و جعلت منه العنصر الأساسي والجوهري في تحديد أو تفسير الماهية الإنسانية... ففي التصور الديكارتي المرتكز على حقيقة الكوجيطو، كحقيقة لا يعتريها الشك ،تبرز فكرة الوعي بالذات و بطبيعتها المفكرة التي تجعلها متميزة عن بقية الموجودات. ف"الأنا أفكر" أو الذات المفكرة هي ما يشكل الهوية الشخصية للإنسان نظرا لكونها الحقيقة اليقينية التي تتمخض عنها تجربة الشك. و بعبارة أخرى، إن الإنسان في فلسفة "ديكارت" يملك هوية جوهرها التفكير أو الوعي، وهو يدرك هذه الهوية كحقيقة واضحة و بديهية للعقل من خلال عملية الشك أو التفكير.

هكذا تقدم الفلسفة الديكارتية الهوية الشخصية للإنسان كجوهر قائم بذاته أو ككيان مكتمل البناء يتم الوعي به من خلال استبطان الإنسان لذاته ليكشف عن طبيعتها المفكرة.

ملحوظة: يقصد بفكرة "الكوجيطو"Le Cogito)) حقيقة الذات كما تصورها" ديكارت" و التي تتمثل في خاصية التفكير أو الوعي ، وعادة ما يعبر عن الكوجيطو الديكارتي بما يلي: " من الواجب أن أشك في كل شيء و لكن الشيء الذي لا يمكنني أن أشك فيه هو أنني أشك، وبما أنني أشك فأنا أفكر ، وبما أنني أفكر فأنا موجود".

جون لوك:(1632/1704)

عرف عن الفلاسفة التجريبيين رفضهم القاطع للموقف العقلاني بصدد مصدر المعرفة ..فبينما أكد العقلانيون على القيمة المطلقة للعقل، اعتبره التجريبيون مجرد صفحة بيضاء تنقش عليها التجربة الحسية معارفنا و أفكارنا. وبناءا على هذا التصور للمعرفة بوصفها نتاجا لتجربة حسية يعتبر "جون لوك" أن المعرفة التي يحصلها الإنسان حول نفسه هي نتاج لحالاته الشعورية، حيث يرى أن ما يجعل الشخص يدرك ذاته عبر أزمنة و أمكنة مختلفة هو الوعي أو المعرفة التي تتولد عن مختلف الإحساســات ( سمع/ لمس/ شم/إبصار...). وبجانب الشعور أو الإحساس كأساس للهوية الشخصية، تقوم الذاكرة بربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية و تعطي بالتالي للوعي بالذات استمرارية في الزمان.

وهكذا تكون المعرفة ،عموما، و الوعي بالذات أو الهوية بشكل خاص، رهينا بما تمدنا به الإحساسات المرتبطة بالمؤثرات الخارجية، الشيء الذي يجعل الهوية الشخصية عبارة عن سيرورة مصاحبة للشعور و الذاكرة ،لا كيانا مجردا أو ميتافيزيقيا لا يحتاج إلى الإرتباط بالعالم الخارجي كما تصوره "ديكارت".

ومن الملاحظ أن المواقف السابقة رغم اختلافها حول مصدر المعرفة أو الوعي، تبقى مشدودة إلى التصور الفلسفي التقليدي الذي يقر بالوعي كحقيقة جوهرية للإنسان و خاصية تميزه عن بقية الكائنات. و مع بروز الفلسفة المعاصرة سيتعرض هذا المنظور للنقد و التشكيك من خلا ل رفض الطابع المطلق الذي تم إضفاؤه على العقل مقابل استبعاد مكونات أخرى تنتمي إلى الجسد و الغريزة أو إلى اللا وعي.

أرثور شوبنهاور:(1788/1860)

لقد درج الفلاسفة التقليديون على النظر إلى الإنسان ككائن عاقل يمثل الوعي خاصيته الجوهرية و المصدر الوحيد لسلوكه و تفكيره، أما ما هو لا عقلي (غريزة/ جسد...) فقد كان يستبعد في إطار هذه النظرة العقلانية، الأمر الذي سيضفي على ماهية الإنسان طابعا ميتافيزيقيا متعاليا عن الطبيعة.

وبخلاف ذلك اتجهت فلسفات معاصرة إلى الكشف عن عناصر أخرى لها أثرها في السلوك الإنساني مثل الجنس و الإرادة و اللاشعور. وفي هذا السياق تندرج فلسفة "شوبنهاور" التي تقوم على نزعة تشاؤمية قوامها الدعوة إلى نبذ الحياة. فهو يرى أن المحرك الأساسي لسلوك الإنسان – تفكيرا و ممارسة – هو إرادة الحياة التي تدفع الإنسان بشكل مستمر إلى السعي وراء أهداف و غايات مختلفة يرى في تحقيقها سعادته التي سرعان ما ينكشف له طابعها الوهمي. فالتجدد المستمر للرغبة يجعل السعادة مستحيلة، و الأهداف التي يتم السعي وراءها لا يمكنها تحقيق الإشباع الكامل لنشاط الإرادة اللانهائية. و بذلك تصبح الحياة مأساة و الإرادة منبعا للألم و الشقاء... أما العقل أو الوعي فليس جوهر الإنسان، كما اعتقد "ديكارت"، فهو لا يعدو أن يكون مجرد لعبة في يد هذه القوة الجبارة التي تمثلها إرادة الحياة التي تصبح بالنتيجة جوهر الوجود الإنساني و المصدر الأساسي للوعي بالذات.

تركيب للمحور :

يتبين إذن أن الإنسان،بوصفه شخصا، يمتلك هوية ثابتة أساسها الوعي أوالشعور والذاكرة أو إرادة الحياة .. والإختلاف الملحوظ بين الفلسفات حول تحديد طبيعة الهوية الشخصية يرجع إلى تباين المنظورات المعتمدة ( نزعة عقلانية/ تجريبية/ تشاؤمية...).

المحور الثاني : الشخص بوصفه قيمة

يتأكد إذن أن الإنسان بوصفه شخصا هو ذات لها هويتها الخاصة التي تتمثل في مفهوم "الأنا" كجوهر ثابت يتحقق من خلاله وعي الإنسان بوجوده أو بذاته، و ذلك بغض النظر عن اختلاف الفلاسفة حول طبيعة و أساس هذه الهوية تبعا للمنظور المعتمد في النظر إلى ماهية الإنسان (الوعي عند العقلانيين/ الشعور و الذاكرة عند التجريبيين/ إرادة الحياة عند " شوبنهاور")...غير أن معنى الشخص يمتد أيضا إلى البعد الأخلاقي بوصفه أحد المميزات التي يختص بها الإنسان و يتسامى بها عن الموجودات الطبيعية. و اعتبار الإنسان شخصا أخلاقيا يعني توفره على وعي أخلاقي يجعله قادرا على التمييز بين الخير و الشر،و على الإلتزام في سلوكه العملي بالمبادئ الأخلاقية مما يجعله مسؤولا عما يصدر عنه من أفعال.. فعلى ماذا يتأسس البعد الأخلاقي للشخص؟ و هل ترجع القيمة الأخلاقية إلى ما يميز ذاته في استقلال عن الغير أم إلى علاقاته مع الآخرين داخل المجموعة البشرية؟

إيمانويل كانط :(1724/1804)

لقد اعتبر "كانط" أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في توفره على عقل عملي أخلاقي يكون منبعا لتصرفاته، وهو عقل حامل لقواعد أخلاقية تتخذ صفة الواجب أو الأمر المطلق. و ينتج عن الإلتزام بهذه القواعد إضفاء كرامة داخلية مطلقة على الشخص الذي يصبح بفضل ذلك غاية في ذاته ،و ليس مجرد وسيلة لتحقيق غاياته الخاصة أو غايات الآخرين.

هكذا فقيمة الإنسان في تصور "كانط "لا تنبني فقط على ما يمتلكه من قدرة على الفهم( الوعي بالمعنى الديكارتي)، بل تتأسس قيمته على تكوينه الأخلاقي الذي يجعل كل فرد موضوع احترام و تقدير سواء من طرف ذاته أو من قبل الآخرين. فعندما يخضع الإنسان للأمر المطلق يتجاوز كينونته الطبيعية و يصبح شخصا تتجاوز قيمته كل سعر لكونه يمثل "غاية" و ليس مجرد وسيلة كبقية الموجودات أو الأشياء.

وما يلاحظ حول التصور الكانطي هو طابعه المثالي الذي يقدم صورة مجردة أو ميتافيزيقية عن الإنسان، وذلك لأن غاية فلسفة "كانط" هي الدفع بالإنسان إلى تجاوز الغايات النفعية العملية التي تجعل منه مجرد وسيلة و تضفي عليه قيمة خارجية نفعية نحو الغايات الإنسانية التي يجسدها الواجب المطلق، والتي تضفي على الإنسان قيمة داخلية مطلقة تجعل منه غاية في ذاته.

جورج غوسدورفGusdorf :(1912/2000)

قدمت الفلسفات الحديثة( ديكارت/ كانط مثلا) صورة مجردة عن الإنسان قوامها النظر إليه كذات تتوفر على ماهية مطلقة و قبلية لا تتأثر بالاختلافات الفردية أو الجماعية . و هي صورة يتعذر على الإنسان العادي أن يجد نفسه فيها بسبب طابعها المثالي الذي لا يتلاءم مع الوجود الواقعي للإنسان كفرد يتأثر بالآخرين و بالمجتمع، وتفرض عليه حياته المعيشية طابعا نسبيا.

ولذلك تعرض هذا المنظور الفلسفي للنقد مع بروز فلسفات معاصرة( القرن 19 و 20) اتجهت نحو التركيز على البعد الواقعي لوجود الإنسان محاولة فهم حقيقته في إطار التجربة المعيشية أو الواقعية . من هنا سنجد في الفلسفة المعاصرة اهتماما بالكشف عن الأبعاد أو المقومات التي تم استبعادها في التصورات السابقة ( الغريزة و الرغبة و الجسد/ العلاقة مع الغير و المجتمع...). و في هذا السياق يندرج رأي الفيلسوف الفرنسي "غوسدورف" حول قيمة الشخص. فهو يؤكد على أن فكرة الإنسان المستقل بذاته، كما تجسدت في الفلسفة الحديثة من خلال الذات المفكرة(ديكارت) أو الشخص الأخلاقي(كانط)، هي فكرة مثالية لا تستقيم مع طبيعة الوجود الواقعي للإنسان.

فالإنسان لا يعيش في عزلة مطلقة أو في حالة استكفاء يستغني فيها عن الآخرين، بل يرتبط وجوده بعلاقات التضامن و المشاركة و الإنفتاح على الغير. وبمعنى آخر، يرى"غوسدورف" أن قيمة الإنسان الأخلاقية لا تنبع من كونه فردا يعي ذاته في استقلالها المطلق عن الآخرين، بل تتحدد هذه القيمة في كونه شخصا يكتمل من خلال علاقته بالآخرين على أساس المشاركة و تقبل الغير. فالكمال الأخلاقي للشخص لا يتحقق إلا في علاقات التعايش داخل المجموعة البشرية، و مدى استعداد الذات للإنفتاح على الغير و الدخول معه في أشكال مختلفة من التضامن الذي يبرز الماهية الأخلاقية للإنسان.

تركيب للمحور :

هكذا يتبين أن البعد الأخلاقي يمثل أحد المقومات الأساسية لمفهوم الشخص، بحيث يستحيل التفكير في هذا المفهوم دون استحضار هذا البعد. ورغم أن التفكير في أساس أو منبع هذا البعد الأخلاقي يكشف عن تنوع الإجابات أو المقاربات، فإنها تكشف ،في النهاية،عن تعدد مستويات النظرة إلى حقيقة الإنسان. و من ثم فالإختلاف بين المنظور الحديث الذي يؤسس الوعي الأخلاقي على مستوى ذاتي تمثله فكرة الشخص الأخلاقية عند "كانط" ، وبين المنظور المعاصر الذي يتجه نحو التركيز على البعد العلائقي للإنسان كأساس لتكوينه الأخلاقي عند "غوسدورف"، هو اختلاف يجد تفسيره في طبيعة المنطلقات الفكرية لكل منظور. المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية

لقدتم النظر إلى الإنسان في إطار الفلسفة التقليدية(من أفلاطون إلى ديكارت و كانط) نظرة ميتافيزيقية أساسها اعتبار الذات الإنسانية متميزة و متعالية عن بقية الموجودات بفضل ما تختص به من وعي و إرادة و حرية و مسؤولية. فالفيلسوف التقليدي لم يكن يرى في ماهية الإنسان سوى ما يجعلها تستبعد كل عنصر طبيعي مقابل الوعي و الإرادة(نجد ذلك مثلا في تصور "أفلاطون" حول خلود النفس، وعند "ديكارت" في فكرة الكوجيطو، و في فكرة العقل الأخلاقي عند "كانط").

غير أن هذا التصور سيبدأ في التراجع أمام تبلور نظرة علمية اتجهت نحو إنزال الإنسان من سمائه الوهمية لكي تربطه بجذوره الطبيعية أولا(علوم الطبيعة)، وبالشروط النفسية والإجتماعية لاحقا(العلوم الإنسانية).. فلم يكن من اللازم انتظار ولادة العلوم الإنسانية لكي تنكشف فكرة الحتمية أو الضرورة التي تتحكم في وجود الإنسان في الخطاب العلمي، بل نجد أن العلوم الطبيعية قد افتتحت هذا الدرب من خلال ما خلقته نظرياتها الفلكية(كروية ودوران الأرض مع "كوبيرنيك") و الفيزيائية (الجاذبية مع "نيوتن") و البيولوجية (نظرية تطور الأنواع مع "داروين") من انقلاب في تصور الإنسان لذاته، حيث أصبح ينظر إليه كجزء من الكون يخضع، مثل بقية الأشياء، لتأثير القوى الطبيعية بعد أن كان ينظر إليه ،في التصور السابق، كسيد لهذا الكون.

ومع بروز العلوم الإنسانية(القرن 20) ستترسخ هذه النظرة الحتمية إلى الإنسان الذي سيصبح بمثابة بنية نفسية و اجتماعية تحددها عوامل خارجية ومستقلة عن إرادة الفرد و رغبته..فمن زاوية نظر التحليل النفسي(فرويد) يكون البناء النفسي للفرد نتيجة حتمية لخبراته الطفولية التي تكون مصدرا لنشأة عقد نفسية نتيجة كبت رغبات الطفل خلال مسلسل النمو النفسي و الجنسي( المرحلة الفمية....)، وهو ما يعني أن معظم السلوكات التي تصدر عن الفرد تحركها دوافع لا شعورية ذات طبيعة جنسية.. وبالإضافة إلى هذه الحتمية السيكولوجية، نجد علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا يؤكدون على دور الشروط السوسيو ثقافية في تحديد شخصية الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية التي يتم بواسطتها ترسيخ قيم ومبادئ المجتمع في شخصيات أفراده، بحيث ينتج عن ذلك وجود نمطين متداخلين من الشخصية عند كل الأفراد، أحدهما يعكس القيم العامة و المشتركة لثقافة المجتمع (الشخصية الأساسية)، و الآخر يعكس الخصائص التي يستمدها الفرد من انتمائه الجنسي والمهني والإجتماعي (الشخصية الوظيفية)؛ كما أن الأحكام الفكرية والأخلاقية التي يتبناها الأفراد في حياتهم اليومية هي نتاج لأثر"الضمير الجمعي" الذي يمثل سلطة أخلاقية و اجتماعية يتم ترسيخها لدى الأفراد عن طريق التربية و التعليم. و بذلك تصبح شخصية الإنسان مرآة تنعكس فيها طبيعة الثقافة التي تميز مجتمعه، الشيء الذي يؤكد وجود حتمية اجتماعية وثقافية تفقد الإنسان كل سلطة أو نفوذ على ذاته ... و بسبب تمسك النظرة العلمية بهذا التفسير للسلوك الإنساني ، والذي يقوم على نفي حرية و فعالية الفرد أمام البنيات النفسية والإجتماعية، اعتبر بعض الدارسين أن هذه النزعة العلمية هي نزعة لا إنسانية لكونها تؤدي إلى اختفاء أو موت الذات أمام الحضور القوي للعوامل النفسية والبنيات الإجتماعية الخارجية.

وأمام هذه النزعة الحتمية التي ميزت الخطاب العلمي حول الإنسان، برزت اتجاهات فلسفية معاصرة تحاول إعادة الإعتبار للذات الحرة والفاعلة التي تم إقصاؤها في سياق المقاربة العلمية.. فالفلسفة الوجودية ،مثلا ،دافعت بشكل كبير عن حرية الفرد رافضة خضوعه لأية سلطة خارجية تتمثل في المؤسسات (الأسرة/ المجتمع / الدولة/ الحزب...). و المبدأ الأساسي الذي ارتكزت عليه الفلسفة الوجودية هو اعتبار أن "وجود الإنسان يسبق ماهيته"، وذلك بخلاف الأشياء أو الحيوانات التي تتحدد ماهيتها بشكل قبلي سابق على وجودها. فالإنسان بالنسبة ل"سارتر" هو الكائن الوحيد الذي يوجد و هو غير حامل لأية صفات أو ماهية قبلية ،بل بالعكس، فهو يكون في البدء عبارة عن لاشيء، ثم يشرع في تأسيس ذاته وفق ما تقتضيه مشيئته أو إرادته. فعلى عكس الطاولة أو الحيوان اللذين يتخذ وجودهما شكلا خطيا انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان يفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو تحديد شخصيته على نحو قبلي مسبق.

ونتيجة ذلك أن الإنسان يعتبر "مشروعا" لا يعرف الإكتمال لأنه يتحدد بما يختار القيام به، مما يجعل تعريفه بشكل نهائي غير ممكن. فما يميز الإنسان كشخص هو قدرته على تحديد ذاته و مصيره بنفسه كما يتضح من قولة "سارتر": "البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يجعل من نفسه جبانا".

ورغم أن الإنسان يتعرض لإكراهات موضوعية تتولد من سلطة البنيات النفسية و الإجتماعية، كما تثبث ذلك العلوم الإنسانية ، فإن ذلك لا يعني - عند الوجوديين - فقدانا للحرية الذاتية والقدرة على الإختيار. فليست الشروط الموضوعية والإكراهات الخارجية سوى تحديات أمام قدرة الإنسان على تجاوزها أو التعالي عليها من خلال طبيعة اختياراته. فالصخرة مثلا تمثل عائقا موضوعيا قد يمنعني من مواصلة السير، غير أن ما أختار القيام به هو الذي يمنح المعنى لموقف الإنسان و يكشف عن حريته، ذلك أنني قد أعمد إلى إزاحة الصخرة لمواصلة الطريق، أو قد أصعد فوقها لمشاهدة منظر معين.. فالإختيار الحر هو الذي يحدد موقف الإنسان في علاقته بالشروط الخارجية التي قد تعوق حريته.

وعموما فقد تميزت الفلسفة الوجودية بإضفاء طابع فردي و متغير على ماهية الإنسان، وذلك بناءا على تأكيدها بأن جوهر الإنسان هو قدرته على الإختيار الحر، الشيء الذي يجعل ماهية الإنسان غير قابلة لتحديد قبلي أو نهائي نظرا لانفتاحها المستمر على إمكانيات متعددة.

وفي سياق الفلسفة " الشخصانية" التي تؤكد على القيمة المطلقة للشخص بوصفه الكائن الأسمى في الكون، تتحدد مكانة الإنسان في سياق علاقته بالغير و بالإنسانية ككل. فالشخص لا يحقق حريته إلا في إطار ما يسميه أقطاب هذه الفلسفة " بالتشخصن" الذي يعني خروج الذات من فرديتها وعزلتها لتنفتح على العالم طبقا لنداء الإنسانية الذي يقتضي من الشخص الدخول مع الغير في علاقة قوامها التواصل و المشاركة. فالحرية ،في منظور الشخصانيين، تبقى حرية مشروطة بالإنفتاح على الغير أو حرية منظمة أساسها الإلتزام باحترام الغير والقيم الإنسانية. و هذا ما يعبر عنه "مونييه" كممثل للشخصانية في الفكر الفرنسي، حيث يؤكد على ضرورة ربط حرية الشخص بالشروط الواقعية التي تجعل الإنسان لا يحقق حريته إلا في إطار الخروج من الذات الفردية نحو الإلتزام بمصير الآخرين. ويندرج موقف "م-ع- الحبابي" في هذا المنظور، حيث يؤكد على أن مفهوم الإنسان لا يتحقق إلا عبر التحرر من وضعية الكائن إلى الشخص(التشخصن) إذ تكون أفعاله صادرة عن وعي قصدي يستهدف الإستجابة لنداء الإنسانية والإنخراط في خدمة قضاياها ومصيرها. فبهذا الفعل الإرادي القصدي الذي يتجه نحو خدمة الإنسانية يحقق الشخص حريته ويتجاوز وجوده الفردي ككائن.

وهكذا يتبين أن الشخص يتحدد - من منظور هذه الفلسفات المعاصرة - ككائن مريد و حر، سواء كانت حريته تتجه نحو الإستجابة للنوازع الفردية و الإختيارات الذاتية كما يرى الوجوديون ، أو كانت حرية مرهونة بالإنفتاح على الغير في إطار التضامن و المشاركة كما يرى الشخصانيون.

تركيب إجمالي:

يتبين أن مفهوم الشخص يحمل طابعا إشكاليا لكونه يثير العديد من القضايا التي تختلف بصددها التصورات أو الخطابات الفلسفية( الهوية/ البعد الأخلاقي/ الحرية...) .و هو مفهوم يشير إلى جملة من الخصائص التي أكدت عليها مختلف المقاربات مثل الوعي بالذات و المسؤولية الأخلاقية و حرية الإرادة..وهذا المعنى الذي درجت عليه التصورات السابقة أصبح،في الوقت الراهن، يكشف عن حدوده في ظل التحولات التي تشهدها الحياة البشرية. فانطلاقا من الجدال الراهن حول العديد من القضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان والطبيعة (الإجهاض – الموت الرحيم – حقوق الطبيعة وكرامة الحيوان..) أخذ مفهوم الشخص يميل نحو التوسع بغاية استيعاب ما يتعدى دائرة الإنسانية (الدفاع عن حقوق بيئية أو حيوانية..)، أو ما كان يلحقه التهميش ضمن دائرة الإنسانية نفسها بسبب التأكيد على الوعي والأخلاق (إدخال الجنين والرضيع والمجنون والمعوق ضمن مفهوم الشخص..).

نشأة الفلسفة


لقد كان ظهور الفلسفة في بلاد اليونان إعلانا عن إحداث قطيعة في التفكير لدى الإغريق، حيث تم الإنتقال من الخطاب الشفوي الأسطوري إلى الخطاب الفلسفي المكتوب الذي يعتمد على الاستدلال العقلي وإنتاج الأفكار والمفاهيم العقلية المجردة. وقد كان للعامل السياسي دور كبير في بزوغ هذا الفكر الجديد حيث ظهرت الفلسفة في مناخ ديمقراطي عرفته المدينة الدولة، حيث سادت حرية التعبير وأصبحت كل القضايا مطروحة للنقاش الحر والعلني.

ويعتبر طاليس وأنكسمانس وأنكسمندر أقطاب المدرسة الأيونية التي ظهرت في مدينة ملطية في القرن 6 ق.م. وقد كانوا علماء يهتمون أساسا بالرياضيات والعلوم الطبيعية.غير أن هذا لم يمنع الكثير من الباحثين من نعتهم بالفلاسفة الطبيعيين نظرا لاهتمامهم بالطبيعة وأصل الكون. وقد شكلت أبحاثهم قطيعة مع الفكر الأسطوري الذي كان سائدا من قبل في بلاد اليونان، مما يجعلهم يمثلون الإرهاصات الأولى للفكر الفلسفي في الحضارة الإغريقية. وسميت المدرسة الأيونية بهذا الاسم نسبة إلى إقليم أيونية الواقع على شاطئ آسيا الصغرى. وتم تكوينها وتأسيسها في مدينة ملطية خلال القرنين 7و6 ق.م. وقد سمي فلاسفتها بالطبيعيين لبحثهم في أصل الطبيعة والوجود.


وقد ساهمت عدة عوامل في ظهور الفلسفة : منها استفادتهم من ثقافات وعلوم الحضارات الشرقية القديمة كالفرعونية والبابلية. كما ارتبط ظهور الفلسفة بظهور نظام الدولة المدينة كنظام سياسي ديمقراطي عرف جدلا وحوارا وحرية في التعبير، واستخداما للأساليب الحجاجية والبرهانية.


وتقع بلاد اليونان في القارة الأوروبية. وتحدها من الشرق آسيا الصغرى، ومن الغرب إيطاليا. أما في الشمال فنجد مقدونيا، في حين تقع جزيرة كريت في الجنوب.


وواضح أن موقع اليونان الاستراتيجي ساهم في تحضرها وازدهار مدنها؛ فآسيا الصغرى التي توجد شرق اليونان كانت، في الفترة السابقة للفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون، تعرف رواجا تجاريا وصناعيا، وكذلك ازدهارا فكريا و ثقافيا. كما كانت جزيرة كريت التي تتواجد في البحر الأبيض المتوسط جنوب بلاد اليونان تعرف هي الأخرى تحضرا وتمدنا في الألف سنة الثانية قبل المسيح. وهذا الازدهار الحضاري الذي عرفته بلاد اليونان سواء في الشرق أو الجنوب، فضلا عن استعمار أجزاء منها من طرف صقلية وإسبانيا، سيساهم بشكل كبير في تحضر المدن اليونانية نظرا لما عرفته من رواج اقتصادي وازدهار ثقافي.


وقد كانت المدن اليونانية منعزلة عن بعضها البعض بفعل العوامل الطبيعية من تضاريس وبحار، وهو أمر جعل كل مدينة عبارة عن دويلة صغيرة تعيش اكتفاءا ذاتيا، سواء من الناحية الاقتصادية بفعل الأرض الزراعية الخصبة أو من الناحية السياسية والثقافية، إذ عرفت هذه المدن نظما في الحكم وأسلوبا في العيش وأشكالا ثقافية تميزها عن باقي المدن في الولايات الأخرى.


ومن أهم تلك المدن "أثينا" التي تحتل موقعا متميزا في بلاد اليونان، إذ كانت البوابة التي تطل على مدن آسيا الصغرى وعلى حضارة الشرق القديم. وهذا الموقع جعلها تستفيد من علوم الحضارات الشرقية العريقة وثقافاتها وخيراتها الاقتصادية، خصوصا إذا علمنا أن أثينا كانت تتوفر على أسطول بحري كبير حولته فيما بعد إلى أسطول تجاري، سيجعلها في تلاقي ثقافي وتجاري دائم مع الشعوب المجاورة.


ومن بين العوامل التي ساعدت على ظهور التفكير الفلسفي في بلاد اليونان يمكن الإشارة إلى ما يلي:


- إشاعة السلطة السياسية بين الناس: إذ لم تعد حكرا على بعض العائلات، بل أصبح الجميع يساهم في اتخاذ القرارات السياسية التي يتوصل إليها عن طريق قواعد الإشهار والدعاية السياسية والحوار الصريح والنقاش الحر الذي يتأسس على تبادل الحجج ووسائل الإقناع المختلفة.


- إشاعة الثقافة بين الجميع؛ وذلك بفضل انتشار الكتابة الأبجدية التي أتاحت للناس تعلم القراءة والكتابة، والمشاركة في المنتديات الثقافية واللقاءات الأدبية والأنشطة الفنية والمسرحية، التي كانت تعرض في الساحة العمومية أو "الأغورا" أمام أعين الناس.


وهكذا فإن انتشار حرية الرأي وإشاعة ثقافة الحوار ساهم في تطور فكر يتأسس على قواعد الحجاج والاستدلال والبرهان والنقد وحوار المناظرة.... وهي من أهم الخصائص التي يرتكز عليها التفكير الفلسفي.


وعلى العموم يمكن اختصار عوامل نشأة الفلسفة عند اليونان في ما يلي:


- عوامل اقتصادية: عرف المجتمع الإغريقي خلال القرن 7 ق.م تطورا اقتصاديا هاما، تمثل في التحول إلى النشاط التجاري والصناعي بدل الاعتماد على النشاط الرعوي والفلاحي. وقد رافق هذا ظهور العملة النقدية. ومعلوم أن التعامل بالنقود يساعد على تطور الفكر التجريدي بالقياس إلى المقايضة التي ترتكز على ما هو حسي.


- عوامل سياسية : وتتمثل أساسا في الانتقال من حكم النبلاء، أي الأوليغارشية « oligarchia » أو حكم الأقلية، إلى الحكم الديمقراطي الذي تجسد في نظام الدولة المدينة التي عرفت مناخا سياسيا وفكريا سادت فيه حرية التعبير والجدل والحوار، الذي كان يتم أساسا في الساحة العمومية –agora – التي توجد في قلب المدينة – الدولة.


- عوامل ثقافية: تمثلت في ازدهار العلوم الدقيقة كالرياضيات وعلم الفلك، لاسيما أن الفلاسفة الأوائل كانوا علماء أمثال طاليس وفيتاغورس. كما نسجل هنا انتقال الفكر اليوناني من الميثوس mythos إلى اللوغوس logos؛ أي من التفكير القائم على الأسطورة إلى التفكير القائم على العقل. فضلا عن انتشار الكتابة الأبجدية، وإشاعة الثقافة بين عموم الناس؛ وهي كلها عوامل ساعدت على نمو فكر فلسفي قائم على الاستقلال والبرهنة والنقد.

الفلسفة وتعريفاتها المختلفة


الفلسفة وتعريفاتها المختلفه .
الفلسفة وتعريفاتها المختلفة


إن الاجابة على هذا السؤال تهدف الى وضع تعريف يبين لنا خصائص وموضوعات البحث الفلسفي الا ان هذا السؤال مثله مثل اسئلة اخرى من مثل ، ما هو الفن ؟ او ما هو الانسان؟ ،

الااننا لانحصل على اجابة دقيقة عند سؤالنا عن ماهية الفلسفة مثلما في علم الرياضيات ،

وهنا يبقى السؤال مفتوحا ينطبق على قابلية الحصول على اجوبة متعددة متنوعة ومضافة

وقبل الدخول في اسباب ذلك تجب الاشارة الى ان اللفظة [ فلسفة ] تعود الى اليونانية في اصلها وهي كلمة مركبة من مقطعين :

الاول [ فيلو ] وتعني حب ،

والثاني [ سوفيا ] وتعني الحكمة

وبذلك يكون المعنى العام للكلمة بمقطعيها [ حب الحكمة ] .

واوردت المصادر التاريخية روايات متعددة عن اول استخدام للكلمة في تاريخ الادب اليوناني . فـ قيل ان فيثاغورس هو اول من استخدم هذه الكلمة [ وهو الفيلسوف المعروف في نظريته في المثلثات والتي حملت اسمه حتى يومنا هذا ] ..

وقيل ان سقراط هو اول من استخدم تلك الكلمة ،

وفي رواية اخرى اُ رجع استخدام الكلمة الى فترة اقدم حيث وردت في وصف [ سولون المشرع ] من قبل احد محاوريه ، وسولون المشرع هذا ويسمى الحكيم احيانا هو من اشهر المشرعين للقوانين في اليونان القديمة .. وبغض النظر عن هذه الاختلافات فان المعنى اللغوي الحرفي لا يفي ولايكفي بتعريفنا بماهية الفلسفة .


ذلك ان الكلمة اصبحت اصطلاحا يدل على مجال من مجالات المعرفة ، وبالعودة الى اسباب اختلاف وتعدد تعريفات الفلسفة نقول ان ذلك يعود الى عاملين اساسيين :-


الاول :-

ان معنى الفلسفة وبحال البحث الفلسفي ليس على حال واحدة في كل العصور ، انما هو يختلف من عصر الى عصر ، بحيث نجد بان مجال البحث الفلسفي في العصر اليوناني الاول يكاد يقتصر على مشكلة الطبيعة او الوجود بينما المعنى يتسع على يد افلاطون ليشمل موضوعات متعددة من بينها علم الاخلاق وعلم الجمال واللغة ، واصبح مجال البحث الفلسفي اكثر ترتيبا ووضوحا على يد ارسطو طاليس حيث شهدت الفلسفة ظهور علم جديد هو علم المنطق الذي وضع اصوله واسسه ارسطو طاليس واصبحت دلالة الكلمة بعد ارسطو بتاثيره واسعة تشمل البحث في مختلف العلوم ، اما في بداية العصر الحديث فقد شهدت الفلسفة ظهور مباحث جديدة متخصصة اخذت اولوية واهمية لم تحصل عليها سابقا وبالتحديد اعني ظهور مبحث نظرية المعرفة ، الذي يصطلح عليه بـ [ الابيتمولوجيا ] اي علم المعرفة او [ علم العلم ] وفي عصرنا هذا نجد ان مبحث فلسفة اللغة قد اخذ الاولوية في مجال البحث الفلسفي .
كما ان معنى الفلسفة وبحالها قد شهدت تغيرا جذريا مع انفصال العلوم عن الفلسفة في العصر الحديث مثل : علم الكيمياء والفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع ..الخ .

ولهذا نقول بان كل ما تقدم يؤشر لنا ما قررناه سلفا وهو ان معنى الفلسفة وموضوعات البحث الفلسفي من الوجهة التاريخية لم تكن على حال واحدة في كل العصور وانما اختلفت من عصر الى عصر مما جعل النظرة الى الفلسفة ووضيفتها ومعناها تختلف ايضا من عصر الى عصر مما يترتب عليه تعدد واختلاف التعريفات .

الثاني :-

ان الفيلسوف في تعريفه للفلسفة يعكس الى حد بعيد وجهة نظره الخاصة فيما يراه من وظيفة وموضوع للبحث الفلسقي ، فنجد فيلسوفا يرى ان مشكلة الوجود هي موضوع الفلسفة وبها تعرف .

يقول ارسطو [ ان الفلسفة هي البحث في الوجود بما هو موجود ] في حين نرى ان فيلسوفا آخر يرى ان وظيفة الفلسفة الاساسية هي البحث في المشكلة الاخلاقية وعلى اساس ذلك نراه يعرف الفلسفة ،، وعلي سبيل المثال يعرف الفيلسوف [ ابيقور ] الفلسفة بانها [ السعي الى حياة السعادة باستعمال العقل ]

كذلك نرى بان الرواقية تعرف الفلسفة بانها [ فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية ] .

ومما تقدم يتبين لنا اختلاف الفلاسفة في تشخيص الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي وبالتالي يتقرر اختلافهم في تعريف الفلسفة .

وفيما ياتي نستعرض مجموعة من تعريفات الفلاسفة للفلسفة:-

اولاً :- الكندي المتوفى بعد 257 للهجرة [ علم الاشياء الابدية بكلياتها وآنيا تها وما هياتها ]

ثانياً :- وتعريف ابي نصر الفارابي المتوفى 339 للهجرة [ العلم بالموجودات بما هي موجودة ]

ثالثا :- تعريف ابن سينا المتوفى 428 للهجرة [ استكمال النفس البشرية بمعرفة حقائق الموجودات على ماهي عليه بقدر الطاقة البشرية ]

رابعا :- تعريف فرنسيس بيكون ، والذي يمثل الاتجاه التجريبي في الفلسفة الاوروبية الحديثة ويعرفها على انها [ تفسير وصفي للكون عن طريق الملاحظة والتجربة بقصد السيطرة على الطبيعة والتحكم في مواردها ] .

خامسا :- رينيه دي كارت والذي يمثل الاتجاه العقلي الفلسفي للاوروبية الحديثة فهو يعرف الفلسفة بانها [ العلم بالمبادئ الاولى ] وهو شبه الفلسفة بشجرة جذورها علم مابعد الطبيعة [ الميتافيزيقيا ] وجذعها علم الطبيعة وفروعها بقية العلوم ونجد في الفلسفة المعاصرة ان الوضعية المنطقية وهي اتجاه فلسفي ظهر في القرن العشرين ترى ان وظيفة الفلسفة تقتصر على [ التحليل المنطقي لللغة ] .


ويمكن لنا هنا ان نضع خلاصة نعدها تعريفا يبين لنا اهم الموضوعات التي تبحثها الفلسفة وبها تعرف بشكل عام وهي :-

[ ان الفلسفة هي التفكير العقلي في موضوعات وقضايا تتعلق بمشكلات الوجود والمعرفة والقيم ويتفرع عنها دراسة الموضوعات الآخرى ]
عربي باي